يرى ان التفسيرات الايديولوجية طغت على الكتابة الفلسطينية.. الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي: لست ضد اي شكل فني قادر على تحقيق ما هو جوهري
الدستور - جهاد هديب
ما زالت الكتابة »الفلسطينية«، ان صح التوصيف، مشغولة بهاجس الواقعية، ثمة ضغط قوي للظرف السياسي، فتحضر »القضية« بكل تجلياتها في التفاصيل اليومية والعادية وليس الاستثنائية فحسب.
لذلك ولاسباب اخرى، وقعت اغلب الكتابة »الفلسطينية« في المباشرة والتوثيق ونأت عن التأمل، بل انها قد خلت من الحدس.
هذه المسألة ورغم الظرف السياسي الضاغط تبرز الى واجهة الجدل الثقافي. وفي هذا الحوار مع الشاعر حسين البرغوثي الذي صدر له مؤخرا (الضوء الازرق) ما لا يخلو من التوصيف للكتابة الراهنة فلسطينيا:
قبل الشروع في هذا الحوار ذكرت ان الكتابة »الفلسطينية« تطفو على سطح »الحدس«.. ما الحدس بالنسبة لشاعر؟
- بالنسبة لي الحدس، هو شعور قلبي لم ينفصل بعد عن حاله التي يشعر بها وبالتالي لم يتبلور بعد في نسق لغوي.. في مفردات وفي نظم تفسيرية منطقية لذلك فهو يشكل تحديا لاكتشاف لغة خاصة بهذا الحدس وتعبر عن ماهيته.
هنا خياران: الاول ان تخضع هذا الحدس الى مفردات سابقة وربما اخرى وقديمة وتكون بنفس الطريقة القديمة.. هنا لا يوجد ذكاء قلب وتفلت التجربة من القول، والاخير ان تتأمل الحدس.. ان تنحت منه لغته الخاصة بماهيته وهنا يمكن ان ينفصل او يخرب القبض على هذا الحدس بادخاله في نظم منطقية تفسيرية من خارجه.. هذا الرأي ليس جديدا في نظرية الفن بل قاله شوبنهاور »ان ما يهمني هو عالم الحدوس والعلاقة الحميمية والمباشرة بعالم الحدس ثمة مثل هو مثل شعري لمحمود درويش:
ارى عبر زنبقة المائدة
وعبر انا ملك الشاردة
ارى البرق يخطف وجهي القديم
الى شرفة ضائعة
لو تأملت فقط كلمتي انا ملك الشاردة لشعرت بشيء ليس منطقيا بالضبط.. هل عبر اللغو.
عندما تنظر عبر المائدة الى اصابع انثى فما جوهر هذا الشعور بالانامل الشاردة انه الحدس متجسدا في شعور.
انه حدس لا يرتبط بنظام ايديولوجي صارم.. المقطع الشعري ينقل اليك حالة وجوا شعوريا ما غامضا (لم يتأطر في سلاسل منطقية) وتشعر به في القلب بالضرورة وهذا ما يعطيك حالة الحدس الشعري.
ان الحدس حميمي وفردي بالنسبة للذات التي تقوله وهنا لا يتم اعطاء نسق لتفسير الحدس ولا يضعه في مرجعيات ايديولوجية محددة ولا انت امام مجموعة من المفاهيم لذلك تعطي الحالة الحدسية دائما شعورا بالانفلات وتشير الى ما وراء اي تفسير محدد يمكن ان تعطيه لها.
ان قارنت هذا المقطع بشعر لابي العلاء المعري تجد ان ابا العلاء قد انتج مفاهيم فلسفية لا تعطيك الحدس مباشرة بل كنظام مؤول.. وهو حدس عقلي وليس قلبيا.
حتى عندما نتكلم عن الحدس فهو ليس مفهوما بالنسبة تماما هو (حكي حدسي) قد ينجح في ان يحول العبارة الى اشارة.
اذن، »الحدس« بري تماما وربما غريزي ايضا؟
- في الحدس ثمة شيء غريزي (ما تحت وعي).. يقول البعض ان الحدس انبنى على معلومات مسبقة غير ملحوظة في التجربة.. ربما ان البعض يصغي الى جسمه او عقله او قلبه.. لكن البعض يصغي كليا الى هذا الوجود وهو المؤهل اكثر من سواه لعيش هذه الحالة الكلية.
لا احاول ان اقول نظرية، لكن احاول ان اقول بعضا من تجربتي حيث يبدو الغور الاعمق للرؤية الفنية هو الحقيقة القلبية كما يحياها القلب بشرط ان ندرك ان القلب ينمو ويتضح وينتج حوارا.
وهنا كثيرا ما اخاف عندما اواجه هذا الكلام ان اقول لنفسي فكرها قبل ان تشعرها والعلاقة بين الفكر والحدس يقول نيتشه بمعنى ما احب اعيد ما، الذي يكون عقله احشاء لقلبه.
هذا التوصيف قد يصلح للكتابة اكثر منه للشعر
- نعم.. اعتقد فانه حيث توجد كتابة جيدة يوجد شيء مما قلناه هنا او ملامسة له.
من الامثلة على ذلك.. في (سرايا بنت الغول) لاميل حبيبي فصل يدور حول التقاء الراوي بسرايا يحمل زخما هائلا.. كذلك اعطيك مثلا حديثا يتمثل بجدارية محمود درويش.
في (سيد البحار) لسارنيه البرازيلي تلمس اسطورة البحر في المستوى الحدسي مثال اخر جدارية لمحمود درويش في نهاية المطاف هي حدس بالموت قبل حدوثه اي ان تجربه قبل ان تعرفه.. الجدارية حول هذا الحدس لكنها ايضا لا تحدده بحيث يظل الحدس فائضا عن تفسيراته.
لنتحدث عن تعين ذلك تطبيقيا في الكتابة الفلسطينية؟
- في الكتابة الفلسطينية طغت التفسيرات المستمدة من الخطاب الايديولوجي: قومي، فلسطينيوي، يساري، ديني لذلك يطغى عليه التشابه فالمرجعيات هي ذاتها والاحكام هي ذاتها..
احدى نتائج هذه الايديولوجيا صرامتها في تحديد الدلالات وتسمية الاشياء بحيث يتم التقليل كثيرا من قوة الايحاء ويحدد موقع لدلالة المفردة في نسق مفهوم وواضح.
بهذا المعنى فان الحدس متطلب.. انه الاصغاء العميق والتدريب الشاق.. هل تدري لقد راح العمر؟؟
- يبدو ان القدماء قد شعروا بهذا فنسبوا الابداع الى فوق الانا او الشخص باعتباره (اعطي) موهبة او عبقريا.. الخ، او ما وراءه.. الخ، فليست الانا هي التي تقرر ذلك.
هذا الحراك في الوعي ما اثره في الكتابة لديك؟
- بالنسبة لي ارى انه اذا فاضت الحياة عن الفن فالحياة افقر عندما يفيض الفن عن الحياة.
اذا كانت طاقة الحياة هي الاصل والجوهر فهي التي تعبر عن الفن فاذا فاضت الحياة عن الفن فهي فقيرة.
خذ مثالا مشهورا في الفن: (الحالة الديونيسية: الرقص التدمير المنبعثة من الاحساس بالنشوة والحرية ودمار الحدود).. هي طاقة حياة، فهو لم ينتش لكي يكتب بل انتشى في الاصل واذا قال كلمة رقصت الحياة في كلمته.. وهي ايضا حالات الشطح الصوفي حيث الشطح نتاج الحالة.
ربما يقرب ما اود قوله ما قاله غوته: المعرفة باهتة يا صديقي لكن الحياة شجرة خضراء الى الابد.
اقول، وانا اذكر بانني لا انظر بل كما ارى الاشياء، فاذا كان الشعر يقيد طاقة الحياة.. فانت تعيش في الاصل لتحيا لا لتكتب، ثمة انتهازية في العلاقة بين الحب.. يشبه ذلك ان يكتب المرء عن حبه لنعرف انه حبيب لكن ذلك لا يقنع اي امرأة.
في هذا السياق اتذكر ما قاله نيتشه: اكتب بدمك لكي تعرف ايضا ان الدم روح«، لان الكتابة بالدم اكثر اصالة من الكتابة بغيره.. انني ارقص لا ليقال بانني ارقص جيدا ولا لكي تلتقط صورة كاميرا ولا لكي احقق دافعا خارجيا عن الرقص ذاته ان ترقص هكذا مثلما ديونسيوس مثلما الكون.
وماذا عن الاحتمالات المفتوحة لشكل الكتابة المقبلة؟؟
- في الشعر، تجربتي الشعرية، بدأت اضيق ذرعا بـ »كم من الحرية تكبح« وبكم الابعاد في الذات تبقى خارج الشعر كما نعرفه كما هي قواعده وقوانينه السائدة والماضية.
لست ضد اي شكل فني، كلاسيكي او تفعيلة او نثر ما دام هذا الشكل قادرا على تحقيق ما هو جوهري في روحي ان اخترته شكلا للتعبير.
والاشكال الجديدة تتم اعادة تشكيلها من الاشكال السابقة بحيث تأخذ ما تقبله وليس ما ترفضه فالتفعيلة اخذت من البحر الوزن مثلا.. فلماذا افكر من خلال الطريقة السياسية؟
ثم ان الرفض ليس دائما وليس مطلقا ان له علاقة بالتجربة العينية في تجربة محددة اخذ شيئا وارفض شيئا وفي اخرى قد ارفض ما اخذته وآخذ ما سبق ورفضته ويناسب التجربة الجديدة.
اذا اخذت القرميد في بيت فليس موقفا من القرميد ان لا تأخذه في بيت اخر السؤال هو ماذا يمكن ان اخذ من هذا البناء لاوظفه في بناء اخر.
ان رفض المطلق الدائم باستقلال عن التجربة العينية هو عدمية.. مثلا في مساء ما ربما يكون مزاجك كلاسيكيا فتكتب على البحر الطويل وبعد دقائق يختلف المزاج وربما تكتب وفقا للبحر الطويل او القصير او نثرا فليس ذلك موقفا من البحر الطويل او »القصير«.
لان الكثيرين يعتقدون ان الثورية بالفن هي الرفض لكن خذ مثلا يحتاج الى تأمل: »بيكاسو في التكعيبية اخذ شيئا من الفراعنة وكذلك شيئا من الارابيسك الاندلسي والكلاسيكي الاوروبي والاقنعة الافريقية وسواها، لذلك انني افكر في نص يشكل مجمعا حرا للاشكال الممكنة القديمة والجديدة في مشروع عيني محدد، هذه الاشكال التي اخترتها او اكتشفتها تساعدك في تحقيقه.
وشيء اخر له صلة بهذا الكلام.. اني لا اطمح الى بناء مشروع كامل حيث كل جديد يبنى على ما سبق هذه الفكرة - الكمال شلت طاقتي في جميع الاتجاهات لذلك تنازلت عنها لذلك فكل كتابة تجربة فقط وليست حجرا في بناء كلي ومن هنا الانتقال من مفهوم الكمال الى فكرة التجريب.. حيث ينبغي ان تتنازل عن فكرة الكمال في التجربة فلكل تجربة سقطاتها وكمالاتها لن تصل ابدا الى تجربة ترضيك ابدا بشرط ان تحاول في كل عمل ان تبلغ كمالك وفي هاجسك تعرف ان هذا العمل منذور للريح.. ان افضل شكل فني بالنسبة للفرد هو الشكل الذي يشبه جدا طريقة عمل ذهنه والاقرب بالتالي الى حياته.
|